مخالفة الصحابة للنصوص عندهم
شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٢ - الصفحة ٨٢

قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد وقد قرأت عليه هذه الأخبار - فقلت له: ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص، ولكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله صلى الله عليه وآله على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين، فقال لي رحمه الله: أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة! ثم قال: إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى أنها من معالم، الدين وأنها جارية مجرى العبادات الشرعية، كالصلاة والصوم، ولكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية ويذهبون لهذا (1) مثل تأمير الامراء وتدبير الحروب وسياسة الرعية وما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه صلى الله عليه وآله إذا رأوا المصلحة في
(1) ا: (هذا).
(٨٢)
غيرها ألا تراه كيف نص على إخراج أبى بكر وعمر في جيش أسامة ولم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة للدولة (1) وللملة وحفظا للبيضة ودفعا للفتنة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يخالف وهو حي في أمثال ذلك فلا ينكره لا يرى به بأسا ألست تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه، فخالفته الأنصار وقالت له: ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه، وانزل في منزل كذا، فرجع إلى آرائهم! وهو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة: (لا تؤبروا النخل)، فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة ولم تثمر حتى قال لهم: (أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم) وهو الذي أخذ الفداء من أسارى بدر فخالفه عمر، فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الامر وخلص الأسرى ورجعوا إلى مكة، وهو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه، فأتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فخالفاه، فرجع إلى قولهما وقد كان قال لأبي هريرة: اخرج فناد في الناس (من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة) فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره، حتى وقع على الأرض، فقال: لا تقلها، فإنك إن تقلها يتكلوا عليها، ويدعوا العمل فأخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، فقال: (لا تقلها وخلهم يعملون)، فرجع إلى قول عمر! وقد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك كإسقاطهم سهم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم وهذان الأمران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا وقد عملوا بآرائهم أمورا لم يكن لها ذكر في الكتاب (2) والسنة، كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا، ولم يحد رسول الله صلى الله عليه وآله شاربي الخمر وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم ولقد كان أوصاهم في مرضه
(1) كذا في ا، وفي ب: (لله).
(2) ساقطة من: ب.
(٨٣)
أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافه عمر، وعملوا في أيام أبى بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة وحولوا المقام بمكة، وعملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة ولم يقفوا مع موارد النصوص، حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد، فرجح كثير منهم القياس على النص، حتى استحالت الشريعة وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة. قال: النقيب: وأكثر ما يعملون بآرائهم فيما يجرى مجرى الولايات والتأمير والتدبير وتقرير قواعد الدولة وما كانوا يقفون مع نصوص الرسول صلى الله عليه وآله وتدبيراته إذا رأوا المصلحة في خلافها كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا وكأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله وتقدير ذلك القيد (افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة). قال: وأما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع والدين وليس بمتعلق بأمور الدنيا وتدبيراتها فإنه يقل جدا، نحو أن يقول: (الوضوء شرط في الصلاة)، فيجمعوا على رد ذلك ويجيزوا الصلاة من غير وضوء، أو يقول: (صوم شهر رمضان واجب) فيطبقوا على مخالفة ذلك ويجعلوا شوالا عوضا عنه، فإنه بعيد، إذ لا غرض لهم فيه، ولا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه صلى الله عليه وآله. والقوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم أن العرب لا تطيع عليا عليه السلام، فبعضها للحسد، وبعضها للوتر والثأر وبعضها لاستحداثهم سنة، وبعضها لاستطالته عليهم ورفعه عنهم،، وبعضها كراهة اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد وبعضها للخوف من شدة وطأته وشدته في دين الله وبعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا، وبعضها ببغضه، لبغضهم من قرابته
(٨٤)